تفسير المراغي - ج ٢٤

أحمد مصطفى المراغي

سورة غافر

هى مكية إلا آيتي ٥٦ ، ٥٧ فمدنيتان ، وآيها خمس وثمانون ، نزلت بعد سورة الزمر.

ومناسبتها اقبلها :

(١) إنه ذكر في سابقتها ما يئول إليه حال الكافر وحال المؤمن ، وذكر هنا أنه غافر الذنب ، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر.

(٢) إنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة ، وأحوال الكفار فيه وهم في المحشر وهم في النار.

قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه : آل حم ديباج القرآن. وعنه أيضا : إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهن. وقال ابن عباس رضى الله عنهما : إن لكل شىء لبابا ، ولباب القرآن آل حم. وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «لكل شىء ثمرة ، وإن ثمرة القرآن ذوات حم ، هن روضات حسان مخصبات متجاورات ، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم».

وعنه أيضا «مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣))

الإيضاح

(حم) تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغنى عن إعادته هنا ، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك أنها كلمات يراد بها التنبيه

٤١

فى أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها فيقال (حاميم) بتفخيم الألف وتسكين الميم ، ويجمع على حواميم وحواميمات ، وأنكر ذلك الجواليقي والحريري وابن الجوزي وقالوا لا يقال ذلك بل يقال آل حم ، ويؤيد ذلك أن صاحب الصحاح نقل عن الفرّاء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب ، وحديث ابن مسعود وقد تقدم : إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن ، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات :

وجدنا لكم في آل حم آية

تأولها منا تقىّ ومعزب

يريد بذلك قوله تعالى : «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا القرآن تنزيل من الله الغالب القاهر في ملكه ، الكثير العلم بخلقه ، وبما يقولون وما يفعلون.

وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقوّل ولا مما يجوز أن يكذّب به.

(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي وهو الذي يغفر ما سلف من الذنوب ، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع ، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله وبغى ، المتفضل على عباده ، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يطيقون القيام بشكرها ولا شكر واحدة منها كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها).

وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لترغيب عباده العاصين ، وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) لترهيبهم ، وفي مجموع هذا الحثّ على فعل المراد من تنزيل الكتاب وهو التوحيد والإيمان بالبعث والإخلاص لله في العمل والإقبال عليه ، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه كقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.

٤٢

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نظير له ، فيجب اتباع أوامره وترك نواهيه.

(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المرجع والمآب ، فيجازى كل نفس بما كسبت.

أخرج أبو عبيد وابن سعد وابن مردويه والبيهقي في الشّعب عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم (من قرأ حم المؤمن إلى ـ إليه المصير ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى ، ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح).

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

تفسير المفردات

الجدل : شدة اللدد في الخصومة ، تقلبهم : أي تصرفهم فيها للتجارة وطلب المعاش ، والأحزاب : الجماعات الذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل ، وهمّت : أي عزمت ، ليأخذوه : أي ليقتلوه ويعذبوه ، ليدحضوا : أي ليزيلوا ، حقت : أي وجبت ، كلمة ربك : أي حكمه بالإهلاك.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم إذا هم عملوا بهديه ـ ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله وإخفاء

٤٣

نوره ، ثم أرشد رسوله ألا يغتر بأحوال أولئك المجادلين وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارة ، لسعة الرزق والتمتع بزخرف الدنيا ، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية ممن كذبوا رسلهم فحلّ بهم البوار فى الدنيا ، وسينزل بهم النكال في الآخرة في جهنم وبئس القرار.

الإيضاح

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه كقولهم مرة إنه شعر ، وأخرى إنه سحر وثالثة إنه أساطير الأولين إلى أشباه ذلك من سخيف المقال ـ إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره.

وهذا النوع من الجدل هو المذموم ، وإليه الاشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم «لا تماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر» أما الجدل لتقرير الحق وإيضاح الملتبس ، وكشف المعضل ، واستنباط المعاني ، ورد أهل الزيغ بها ، ورفع اللبس ، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن ، فهو وظيفة الأنبياء ، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح لنوح «يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا».

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : «هاجرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج يعرف في وجهه الغضب ، فقال إنما هلك من كان قبلهم باختلافهم في الكتاب» رواه مسلم.

وقال أبو العالية : آيتان ما أشدهما علىّ : «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا» الآية ، وقوله : «وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر نهى رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يغتر بشىء من حظوظهم الدنيوية فقال :

(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة

٤٤

فى البلاد ، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمين ورحلة الصيف فى الشام ، ثم يرجعون سالمين غانمين ، فإنهم معاقبون عما قليل ، وهم وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج : لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم ، فإن عاقبتهم الهلاك.

وفي هذا تسلية له صلّى الله عليه وسلم ووعيد لهم.

ثم قال مسليا رسوله على تكذيب من كذبه من قومه ، بأن له أسوة في سلفه الأنبياء ، فإن أقوامهم كذبوهم وما آمن منهم إلا قليل فقال :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب ، فحلّت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم كما هى سنتنا فى أمثالهم من المكذبين ، كعاد وثمود ومن بعدهم ، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك.

(وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه. وقال قتادة والسدى ليقتلوه ، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى : «أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ».

(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي وخاصموا رسولهم بالباطل بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها كقولهم : «ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند الله ، وليطفئوا النور الذي أوتيه ، قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا الإيمان.

(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم فلم أبق منهم ديّارا ولا نافخ نار وصاروا كأمس الدابر ، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين كما قال : «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات الله ، وإلى ذلك أشار بقوله :

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها ، وقصصت عليك خبرها أن يحل بها عقابى ـ وجبت

٤٥

كلمة ربك على الذين كفروا بالله من قومك ، لأن الأسباب واحدة وهى كفرهم وعنادهم للحق ، واهتمامهم بإطفاء نور الله الذي بثه في الأرجاء لإصلاح نظم العالم وسعادته فى دينه ودنياه ، وارتقاء النفوس البشرية والسموّ بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان ، طمعا في خير يرجى منه ، وشفاعة تنفع عند الله.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

تفسير المفردات

العرش : مركز تدبير العالم كما تقدم إيضاح ذلك في سورة يونس ، وندع أمر وصفه إلى عالم الغيب فهو العليم بعرشه ووصفه ، وقهم : أي احفظهم من وقيته كذا أي حفظته ، السيئات : أي الجزاء المرتب عليها.

المعنى الجملي

بعد أن أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة ، ومجادلتهم للرسل بالباطل لاطفاء نور دعوتهم ـ أردف ذلك بيان أن أشرف المخلوقات وهم الملائكة الذين يحملون العرش والحافّون حول العرش ـ يحبون المؤمنين ويطلبون لهم ولآبائهم

٤٦

وأزواجهم وذرياتهم المغفرة من ربهم ، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين ولا تقم لهم وزنا ، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله.

الإيضاح

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم ، والملائكة الذين هم حوله ينزهون الله متلبسين بحمده على نعمه ، ويقرون بأن لا إله إلا هو ولا يستكبرون عن عبادته ، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به من توحيد الله والبراءة من كل معبود سواه.

ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من حمل الملائكة للعرش ، ولا نبحث عن كيفيته ولا عن عدد الحاملين له ، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة فنكل أمر علمها إلى ربنا ، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه.

وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذى العرش سبحانه ، ومكانة الملائكة لديه ، وتوسطهم في نفاذ أمره.

ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم :

(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شىء من خلقك ، والمراد أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك يحبط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم.

(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصفح عن المسيئين إذا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم ، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات ، وترك

٤٧

المنكرات ، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية بأن تلزمهم الاستقامة ، وتتم نعمتك عليهم ، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب ، ولا يبدّل القول لديك.

قال مطرّف بن عبد الله : وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة ، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان ، وتلا هذه الآية.

وقال خلف بن هشام البزّار القارئ : كنت أقرأ على سليم بن عيسى ، فلما بلغت «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بكى ، ثم قال يا خلف : ما أكرم المؤمن على الله ، يكون نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك ، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية ، لتقرّبهم أعينهم ، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور يكون أكمل للبهجة وأتم للأنس.

قال سعيد بن جبير : يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدي وأمي؟ وأين ولدي وولد ولدي؟ وأين زوجاتى؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك ، فيقول : يا رب كنت أعمل لى ولهم ، فيقال أدخلوهم الجنة ، ثم تلا : «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ» إلى قوله : «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» ويقرب من هذه الآية قوله : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ».

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي أنت الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور.

ثم عمموا في الدعاء لهم بأن يمنع عنهم العقوبات الدنيوية والأخروية فقالوا :

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا قد أتوها قبل توبتهم ، ولا تؤاخذهم بذلك فتعذبهم بها.

٤٨

(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات يوم القيامة فقد رحمته ونجيته من عذابك.

(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الفوز الذي لا فوز أجمل منه ، ولا مطمع وراءه لطامع ، إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع ، وبأفعال قليلة ملكا لا نصل العقول إلى كنه جلاله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

٤٩

تفسير المفردات

المقت : أشد البغض ، والروح : الوحى ، يوم التلاقي : هو يوم القيامة ؛ وسمى بذلك لالتقاء الخالق بالمخلوق ، بارزون : أي ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا نحوهما.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات الله ـ أردف ذلك بيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال ، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم.

وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته بإظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق ، وأنه أرفع الموجودات ، لأنه مستغن عن كل ما سواه ، وكل ما سواه محتاج إليه ، وأنه ينزل الوحى على من يشاء من عباده ، لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين تناديهم الملائكة يوم القيامة وهم يتلظّون النار ويذوقون العذاب ، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها أشد البغض ، بسبب ما أسلفوا من سيئ الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار ـ إن مقت الله لكم في الدنيا حين كان يعرض عليكم الإيمان فتكفرون ـ أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وأنتم على هذه الحال.

والخلاصة ـ إن مقت الله لأهل الضلال حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا

٥٠

فتركوه وأبوا أن يقبلوه ـ أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة ، قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.

ثم ذكر ما يقولونا حين ينادون بهذا النداء فقال :

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قالوا ربنا خلقتنا أمواتا ، وأمتنا حين انقضاء آجالنا ، وأحييتنا أو لا ينفخ الأرواح فينا ونحن في الأرحام ، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود ، وجعلوا ذلك نظير آية البقرة : «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ».

(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي فاعترفنا أننا أنكرنا البعث فكفرنا وفعلنا من الذنوب ما لا يحصى عدّا ، لأن من لم يخش عاقبة يتماد في غيه ، ولكن حين رأينا الإماتة والإحياء قد تكررا علينا علمنا أن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها.

ثم طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما فاتهم فقالوا :

(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل ، فإنك قادر على ذلك.

وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس ، قالوه تحيّرا أو تعللا عسى أن يتاح لهم الفرج.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» وقوله : «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ».

فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض الباتّ مع ذكر السبب فقال :

٥١

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا سبيل إلى رجعتكم إلى الدار الدنيا ، لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه ، فإنكم كنتم فيها إن دعى الله وحده كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة ، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله ، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا كما قال : «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».

ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم فقال :

(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي فالحكم حينئذ لله الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة ، وهو ذو الكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شىء ، ومن ثم اشتدت سطوته بمن أشركوا به ، واقتضت حكمته خلودهم في النار ، فلا سبيل إلى خروجكم منها أبدا إذ أشركتم به سواه.

ثم ذكر ما يدل على كبريائه وعظمته فقال :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه ، بما يشاهدونه في العالم العلوي والسفلى من الآيات العظام الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرده بالألوهية كما قال :

وفي كل شىء له آية

تدلّ على أنه واحد

ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه وهو المطر فقال :

(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال ، مما أبدعته يد القدرة ووشّته بأبدع الحلي والمناظر.

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي وما يعتبر بتلك الآيات ، ويستدل بها على عظمة خالقها ، إلا من ينيب إلى ربه ، ويتفكر في بديع ما خلق ، وعظيم ما أوجد ، ويترك التقليد واتباع الهوى.

٥٢

والخلاصة ـ إن دلائل التوحيد مركوزة في العقول لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير الله ، فإذا أناب العبد إلى ربه زال الغطاء ، وظفر بالفوز ، وظهرت له سبل النجاة.

ولمّا ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال :

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إذا علمتم أن التذكر خاص بمن ينيب ، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها ، وخالفوا المشركين فى مسلكهم ، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك ، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.

وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن الزبير «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون».

وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال : «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه».

وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق ـ ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته فقال :

(١) (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي إنه أرفع الموجودات وأعظمها شأنا ، لأن كل شىء محتاج إليه ، وهو مستغن عما عداه ، وإنه أزلى أبدىّ ليس لوجوده أول ولا آخر ، وإنه العالم بكل شىء «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ».

(٢) (ذُو الْعَرْشِ) أي إنه مالك العرش ومدبره ، فهو مستول على عالم الأجسام وأعظمها العرش ، كما هو مستول على عالم الأرواح وهى مسخرة له ، وإلى ذلك أشار قوله :

٥٣

(٣) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقى الوحى بفضائه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه.

ونحو الآية قوله : «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» وقوله : «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ».

(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي لينذر بالعذاب يوم يلتقى العابدون والمعبودون ، يوم هم ظاهرون لا يكنّهم شىء ، ولا يسترهم شىء.

(لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) فيعلم ما فعله كل منهم ، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ».

ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال :

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي يقول الرب تعالى : لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد ، فيجيب سبحانه فيقول : لله الواحد القهار أي هو الواحد الذي لا مثل له ، القهار لكل شىء سواه بقدرته ، الغالب بعزته. وقيل : المجيب هم أهل المحشر ، فقد روى أبو وائل عن ابن مسعود قال : يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عز وجل عليها ، فيؤمر مناد ينادى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا وخضوعا.

وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم ـ أردفها بيان صفات عدله وفضله فقال :

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي اليوم يثاب كل عامل بعمله ، فيلاقى أجره ، ففاعل الخير يجزى الخير وفاعل الشر يجزى بما يستحق ، لا يبخس أحد

٥٤

ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا فينقص منه إن كان محسنا ، ولا يحمل على مسىء إثم ذنب لم يعمله.

روى مسلم عن أبى ذر رضى الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه «يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ـ إلى أن قال ـ يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».

ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاء فقال :

(إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن الله سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا نفسا واحدة ، لإحاطة علمه بكل شىء ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.

أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : «يجمع الله الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ، فأول ما يتكلم أن ينادى مناد لمن الملك اليوم ـ إلى قوله الحساب».

ونحو الآية قوله : «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» وقال : «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ».

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠))

٥٥

تفسير المفردات

يوم الآزفة : يوم القيامة وسميت بذلك لقربها ؛ يقال أزف السفر : أي قرب ، قال :

أزف الترحّل غير أنّ ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

والحناجر : واحدها حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى ، وهى لحمة بين الرأس والعنق ، كاظمين : أي ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج ، والحميم : القريب ، خائنة الأعين : يراد بها النظر إلى ما لا يحل ، ما تخفى الصدور : أي ما تكتمه الضمائر.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاقي ـ أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة تصطك منها المسامع ، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.

الإيضاح

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي وأنذر أيها الرسول مشركى قومك يوم القيامة ، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم ، وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب ، ذلك اليوم الذي يعظم فيه الخوف حتى ليخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور ، وتعلقت بالحلوق ، فيرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم ، فلا هى ترجع ولا هى تخرج من أبدانهم فيموتوا.

ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال :

(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله قريب ينفعهم ، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم ، بل تقطعت بهم الأسباب من كل خير.

٥٦

ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شىء وإن كان في غاية الخفاء فقال :

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده وما نظرت به إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الرّيب ، قال ابن عباس في الآية : هى الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها ، وإذا غضوا نظر إليها ، وإذا نظروا غض بصره عنها.

وقد اطّلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها ، أخرجه ابن أبى شيبة وابن المنذر.

(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي لا يخفى عليه شىء من أمورهم حتى ما يحدّثون به أنفسهم وتضمره قلوبهم.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي والله يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها ، وأخفته الصدور من النوايا ، فيجزى الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى ، ويجزى الذين رددوا النظر ، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك ـ لا يقضون بشىء لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شىء ، فاعبدوا الذي يقدر على كل شىء ، ولا يخفى عليه شىء.

وغير خاف ما في هذا من التهكم بآلهتهم.

(إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة ، البصير بما تفعلون من الأفعال ، وهو محيط بكل ذلك ومحصيه عليكم ، فيجازيكم عليه جميعا يوم الجزاء.

ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون ، والتعريض بحال ما يدعون من دون الله.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ

٥٧

وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

المعنى الجملي

بعد أن بالغ سبحانه في تخويف الكفار بعذاب الآخرة ـ أردفه تخويفهم بعذاب الدنيا ، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، إذ كذبوا رسلهم حين جاءوهم بالبينات.

الإيضاح

حذر الله هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارا كعاد وثمود ، (والسعيد من وعظ بغيره) فقال واعظا ومذكرا : ألم يسر هؤلاء المشركون بالله في البلاد فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل ، وقد كانوا أشد منهم بطشا ، وأبقى في الأرض آثارا ، فلم تنفعهم شدة قواهم ، ولا عظيم آثارهم إذ جاء أمر الله ، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي واكتسبوا من الآثام ، فأبيدوا جميعا وصارت مساكنهم خاوية بما ظلموا ، وما كان لهم من عذاب الله من حافظ يدفعه عنهم؟

قصص موسى عليه السلام مع فرعون

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ

٥٨

إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧))

تفسير المفردات

السلطان : الحجة والبرهان ، فرعون : ملك القبط بالديار المصرية ، وهامان وزيره ، وقارون كان أكثر الناس في زمانه تجارة ومالا ، عذت : التجأت وتحصنت ، متكبر : أي مستكبر عن اتباع الحق.

المعنى الجملي

لما سلى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا بالأنبياء قبله بمشاهدة آثارهم ـ سلاه أيضا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتى من الحجج الباهرة ، كذبه فرعون وقومه وأمروا بقتل أبناء بنى إسرائيل ، وأمر فرعون بقتل موسى خوفا أن يبدل دينهم أو يعيث في الأرض فسادا ، فتعوّذ موسى بربه ورب بنى إسرائيل من كل جبار متكبر لا يؤمن بالجزاء والحساب.

الإيضاح

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يقول سبحانه مسليا نبيه على تكذيب من كذبه من قومه ، ومبشرا له بأن العاقبة والنصر له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام ، فإن الله

٥٩

أرسله بالآيات البينات إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا حين عجزوا عن معارضته.

وخص فرعون وهامان وقارون بالذكر ، لأنهم الرؤساء المكذبون والناس تبع لهم.

ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجئوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره ، وإلى هذا أشار بقوله :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي فلما جاءتهم الآيات البينات الدالة على توحيد الله ووجوب العمل بطاعته ، قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة : اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه من أبناء بنى إسرائيل وأبقوا نساءهم لخدمتنا.

قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأول ، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بنى إسرائيل عقوبة لهم فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان ، ولئلا يكثر جمعهم ويشتد عضدهم بالذكور من أولادهم ، لكن الله شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمّل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر.

وإلى هذا أشار سبحانه بقوله :

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم وهو تقليل عدد بنى إسرائيل لئلا ينصروا عليهم ـ إلا ذاهب سدى وباطلا ، فالناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم ما فعل ، وإن القدر المقدور لا محالة نافذ ، والقضاء المحتوم لا بدّ واقع ، والنصر حليف المؤمنين ، كما وعد في كتابه المكنون «كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي».

والخلاصة ـ إن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة ويذهب هباء أمام تلك القوة القاهرة وسيكون النصر للمتقين.

٦٠